الحرب الباردة لأشباه الموصلات: الولايات المتحدة في مواجهة روسيا والصين والهند

 بواسطة فرح آبو رية

أضحى التنافس العالمي حول أشباه الموصلات والتقنيات العسكرية المرتبطة بها المحور المركزي في صراع القوى الكبرى. ولا تزال الولايات المتحدة تحافظ على موقعها الريادي في صناعة أشباه الموصلات عالميًا، حيث تستحوذ الشركات الأميركية على نحو نصف السوق العالمية. غير أن هذه الهيمنة تواجه تحديًا متناميًا من الصين، التي شكّلت مبيعاتها نحو 20% من السوق العالمية لأشباه الموصلات في عام 2024. وتمضي بكين بخطى ثابتة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، على الرغم من استمرار التوترات التجارية والقيود المفروضة من واشنطن على حقوق الملكية الفكرية في إطار ما يُعرف بـ”الحرب التكنولوجية”. وتطمح الصين إلى بلوغ مستوى 50% من الاكتفاء الذاتي في إنتاج أشباه الموصلات مع نهاية العام، مدعومة باستثمارات ضخمة في مجال البحث والتطوير والتوسع السوقي لشركاتها الوطنية.

روسيا تواجه تحديات التكنولوجيا العسكرية

على الجانب الآخر، فإن موقع روسيا في الصناعات العسكرية المعتمدة على أشباه الموصلات بات يواجه قيودًا متزايدة. فعلى الرغم من احتفاظ موسكو بخبرة واسعة في تصميم الأسلحة، إلا أنّ اعتمادها على المواد المستوردة ومعدات تصنيع الرقائق المتقدمة من الدول الغربية يكشف عن ثغرات حرجة في بنيتها التكنولوجية. وقد أدّت العقوبات الغربية المفروضة ردًّا على العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى تقليص حاد في قدرة موسكو على الوصول إلى هذه المدخلات الأساسية.

وفي مواجهة ذلك، سعت روسيا إلى إيجاد مصادر بديلة، لتبرز الصين كمزوّد رئيسي لمواد أشباه الموصلات. وتشكل هذه الديناميات جزءًا من الإطار الثلاثي الأوسع الذي يجمع روسيا والهند والصين (RIC)، وهو ما يعكس التحوّل الاستراتيجي لموسكو نحو شراكاتها الشرقية.

الهند تدخل معترك أشباه الموصلات

تشهد الهند تطورًا متسارعًا يجعلها لاعبًا بارزًا في قطاع أشباه الموصلات. وقد شكّل إعلانها في سبتمبر عن شريحة محلية الصنع باسم “Vikram 32” محطة مفصلية في مساعي نيودلهي لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، كما يعكس مؤشّرًا على احتمال بروزها كمنافس للهيمنة الأميركية في هذا القطاع الحيوي.

وتعكس زيادة انخراط الهند مع روسيا والصين حالة من الاصطفاف البراجماتي القائم على المصالح المتبادلة، لا سيّما في ظل تصاعد التوترات السياسية مع واشنطن. وتجدر الإشارة إلى أن الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة على تجارة الهند في النفط الروسي شكّلت حافزًا إضافيًا لتعزيز هذا التعاون الثلاثي.

التحالف الثلاثي: الصين وروسيا والهند

على نحو جماعي، تمثّل “الترويكا” المكوّنة من الصين وروسيا والهند ائتلافًا قائمًا على المصالح المشتركة أكثر من كونه تحالفًا أيديولوجيًا متكاملًا. وإذا ما تعزّزت هذه الشراكة، فقد يسهم ذلك في دعم قدراتها التصنيعية في مجال أشباه الموصلات بشكلٍ ملحوظ، ويشكل تحديًا للصناعة الأميركية.

ومع ذلك، تبقى الخلافات العالقة — مثل النزاعات الحدودية غير المحسومة، وتباين الأولويات الاقتصادية، والفجوات التكنولوجية، فضلًا عن تأثير العقوبات — عائقًا أمام تحقيق اندماج تقني سلس. ولا تزال الولايات المتحدة تمتلك نفوذًا معتبرًا على الهند، من خلال فرص جذبها عبر زيادة الاستثمارات، وخفض الرسوم الجمركية، والتعاون في مجال التكنولوجيا المتقدمة.

وفي نهاية المطاف، فإن مسار الشراكة الثلاثية في قطاع أشباه الموصلات يحمل انعكاسات عميقة على النظام الدولي. إذ إن نجاح دمج هذه “الترويكا” لصناعتها في مجال الرقائق مع تقنياتها العسكرية قد يفضي إلى تسريع بروز نظام متعدد الأقطاب، ويحدث ثورة في قدرات المراقبة والدفاع الجوي والطائرات المسيّرة، إلى جانب القاعدة الصناعية الدفاعية الأوسع، الأمر الذي من شأنه إعادة تشكيل ديناميات القوة على الصعيد الدولي.

الدوافع السياسية والاستراتيجية لتحالف روسيا–الهند–الصين

إن الدوافع السياسية والاستراتيجية التي تقف وراء تحالف روسيا–الهند–الصين (RIC) متعددة الأبعاد، وتعكس أولويات متمايزة لكل طرف من أطرافه:

  • الهند: توسيع قدراتها التصنيعية في مجال أشباه الموصلات بما يخدم احتياجاتها التكنولوجية والدفاعية، والاستفادة من الدعم الروسي والصيني، والتوسع في الأسواق الإقليمية.
  • روسيا: تقليل الاعتماد على الغرب والحفاظ على الوصول إلى تقنيات متقدمة من الصين والهند لتعزيز قدراتها العسكرية.
  • الصين: تعزيز نظام دولي متعدد الأقطاب وتحدي الهيمنة الأميركية، عبر بناء شراكات متعددة الأطراف.

مع ذلك، تظل علاقة الهند بالصين محكومة بسقف من النزاعات الجيوسياسية والبيئية، أبرزها التوترات الحدودية في الهيمالايا ومشروعات السدود الصينية في التبت. وعلى الرغم من هذه التحديات، يُتوقّع أن تنتهج الهند استراتيجية براجماتية متوازنة بين الانخراط مع الصين وتعظيم الاستفادة من الشراكة الثلاثية، مع إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة بعناية.

سيناريو نجاح أو تفكك الترويكا

نجاح التحالف يعتمد على قدرة الأطراف على تحقيق تقارب براجماتي يستند إلى المصالح المشتركة، خصوصًا في البحث والتطوير لأشباه الموصلات والتقنيات الدفاعية.

  • التعاون بين الهند والصين سيكون محدودًا بالتوترات الحدودية.
  • روسيا وبكين لديهما حافز قوي للتعاون نتيجة الاستياء من النظام الدولي الغربي والعقوبات الاقتصادية.
  • الولايات المتحدة قد تقوض التحالف من خلال حوافز صناعية وتقنية للهند، بما يشمل الشراكة الأميركية–الهندية في التكنولوجيا الحرجة والناشئة (iCET).

تظل الفجوة التكنولوجية في تصنيع أشباه الموصلات عاملاً حاسمًا؛ فاعتماد روسيا على الواردات الصينية، وصعود الهند في صناعة الرقائق، وتوتر العلاقات الحدودية بين الصين والهند، كلها محددات رئيسية لمسار التحالف.

التأثير على النظام الدولي ومستقبل صناعة الرقائق

أشباه الموصلات تشكّل ركيزة تطوير التقنيات العسكرية والذكاء الاصطناعي. وفي حال نجاح التحالف الثلاثي في دمج قدراته الإنتاجية مع التكنولوجيا الدفاعية، فقد يشهد العالم تحولًا نحو نظام متعدد الأقطاب، مع تعزيز قدرات الدفاع الجوي والطائرات المسيّرة، ما يعيد تشكيل ديناميات القوة العالمية.

يبقى دور الهند محورًا حاسمًا، حيث يمكن لتقدمها في تصنيع الرقائق أو انخراطها مع الولايات المتحدة أن يحدد مستقبل التوازن التكنولوجي والجيوسياسي في هذا القطاع الحيوي.

زر الذهاب إلى الأعلى