image

تعبيرية - (مواقع التواصل)

في الشرق الأوسط، لا تموت الأسئلة الكبرى، بل تعود بثيابٍ جديدة، ووقعٍ أكثر فتكًا. ومع تصاعد طبول الحرب بين إسرائيل وإيران، واحتدام الصراع على أبواب هرمز والجولان وغزة، تعود للأذهان قضية أكثر إيلامًا وتعقيدًا: من هو العدو الحقيقي للسنّة؟ إيران التي تتدثّر برداء “المقاومة”، أم إسرائيل التي لم تُخف يومًا نواياها الاستيطانية والتهويدية؟

ليس السؤال جديدًا، لكن السياق هو الأكثر خطورة منذ عقود.

وفي زحام التحالفات والتوازنات، تلوح في الأفق ذاكرة قديمة لم تغب قطّ…

ذاكرة محفورة بالحجارة والدم، تعود إلى عصر القرامطة والفاطميين، حين كان الانقسام المذهبي أكثر من خلاف فقهي؛ كان مشروعًا لكسر العمود الفقري للأمة، وتحويل القبلة من مكة إلى مرجعية جديدة.

القرامطة والفاطميون: دماء على صفحات التاريخ

في القرن الثالث الهجري، ظهر القرامطة، وهم فرقة إسماعيلية متطرفة من الشيعة، كان من أبرز جرائمهم التاريخية اقتحام مكة عام 317هـ، وقتل الحجاج في الحرم، واقتلاع الحجر الأسود وسرقته إلى الإحساء لمدة 22 سنة.

اقرا أيضا

هلع في الخليج من خطر التلوث النووي.. ومسؤول يُطلق تحذيرًا عاجلًا

يقول الدكتور فؤاد عكاشة، أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة:

“لم تشهد الكعبة يومًا أسود كما شهدته على يد القرامطة. كانوا يرون في السنة عدوًا يجب استئصاله. كانت تلك لحظة فارقة في الوعي السني، غرست جذور الشك والعداء تجاه التشيّع المتطرف.”

الفاطميون، بدورهم، أسسوا دولة شيعية قوية في شمال إفريقيا ومصر. رغم إنجازاتهم العمرانية، إلا أنهم سعوا لفرض مذهبهم بقوة، واضطهدوا علماء السنة، وعزلوا الحرمين لفترات، بل وسعوا إلى نقل ثقل الإسلام من الحجاز إلى القاهرة.

يضيف المؤرخ البريطاني روبرت مايلز:

“الفاطميون مثّلوا أول تجربة نظام حكم شيعي منظم ينافس الخلافة السنية العباسية. تعاملهم مع السنة لم يكن مجرد تهميش، بل مشروع للهيمنة العقائدية والسياسية.”

من الماضي إلى الحاضر: صعود إيران والورقة الطائفية

في العصر الحديث، ظهرت إيران كقوة إقليمية شيعية بعد الثورة الخمينية عام 1979، وبدأت في تصدير الثورة إلى العالم العربي، من لبنان إلى العراق واليمن. ومع سقوط بغداد عام 2003، تكرّست الهيمنة الشيعية في عدة بلدان عربية، غالبًا بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني.

اقرأ أيضا

خبراء لـ’اليوم ميديا’: هل يُمهّد ترامب لغزو إيران على خُطى العراق؟

يقول المحلل الأمني الأميركي دانيال روس:

“إيران تستخدم البعد الطائفي كسلاح استراتيجي. مليشياتها الشيعية تتغلغل في الأنظمة الهشة لتقويض الوجود السني، كما حدث في الموصل والأنبار وصنعاء.”

في هذا السياق، بدأ كثير من السنة، خصوصًا في دول الخليج، يشعرون بأن الخطر الإيراني أكثر إلحاحًا من الخطر الإسرائيلي، ما ولّد نقاشًا حساسًا:
هل يمكن التحالف، أو على الأقل التنسيق، مع إسرائيل لصدّ التمدد الإيراني الشيعي؟

شهادات من داخل الساحة: صوت السنة في زمن الانقسام

في لقاء مع الدكتور سامر القيسي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد:
“اختيار السنة بين الشيعة وإسرائيل ليس خيارًا بسطياً أو أخلاقيًا فقط، بل هو محاولة للبقاء والسيطرة على المستقبل السياسي في المنطقة. الكثير من السنة يرون أن المواجهة مع إيران تتجاوز الحدود الطائفية، وهي معركة استراتيجية مع تأثيرات جيوسياسية واسعة.”

بينما تبرز إيمان عبد الله، ناشطة فلسطينية من غزة ، وجهة نظر مغايرة:
“لا يمكن أن يكون هناك أي موقف سني يدعم إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. إسرائيل ليست مجرد عدو سياسي، بل هي محتلة لأرض المسلمين. مهما كانت الاختلافات مع الشيعة، فإن فلسطين هي الخط الأحمر“.

إسرائيل: من عدو واضح إلى شريك ظرفي؟

رغم أن العقيدة السنية كانت، لعقود، ترى في إسرائيل العدو الأول لاحتلالها فلسطين، إلا أن التغيرات الجيوسياسية غيّرت المعادلة.

الصحفي والمحلل الفرنسي إيمانويل ليفي يشرح ذلك بقوله:

“التحالف بين بعض الدول السنية وإسرائيل ليس وليد حب أو تطابق مصالح، بل نتيجة لمعادلة إقليمية ترى في طهران تهديدًا وجوديًا، خصوصًا بعد ما فعلته المليشيات الشيعية في سوريا والعراق“.

ويضيف:

“من وجهة نظر براغماتية، إسرائيل باتت طرفًا يمكن استخدامه كورقة ردع ضد طهران، ولو كان ذلك ضمنيًا“.

في المقابل، يرى البعض أن التحالف مع إسرائيل يمثل انتحارًا سياسيًا وأخلاقيًا، ويخدم مشروع “تفتيت المنطقة” الذي تسعى إليه قوى غربية وإقليمية منذ قرن.

موقف السنة: تشرذم وهوية في خطر

في أوساط السنة، تتباين المواقف. فبينما تميل أنظمة ودول إلى التطبيع أو التعاون الأمني مع إسرائيل، ترى تيارات شعبية ودينية أن إسرائيل لا يمكن أن تكون إلا عدوًا محتلًا.

تقول الباحثة الأردنية سارة العمري:

“المجتمع السني يعيش صراعًا داخليًا بين إرث المقاومة وبين ضغوط الواقعية السياسية. كثيرون لا يثقون بالشيعة بسبب سجلهم الدموي، لكنهم أيضًا لا يستطيعون تبرير تحالف مع من يحتل الأقصى.”

أما الداعية السلفي العراقي (طلب عدم ذكر اسمه)، فيقول:

“نحن كسنة نعيش في منطقة محاطة بأعداء كثر. الشيعة الإيرانيون يستخدمون الدين كواجهة لتوسيع نفوذهم السياسي والعسكري، وهذا يهدد وجودنا وهويتنا. لذلك، نبحث عن أي دعم ممكن، حتى لو كان من إسرائيل.”

اقرأ أيضا

تل أبيب في مرمى الصواريخ.. هل تنهار؟

خاتمة | أي تاريخ نختار؟ وأي ذاكرة ننقذ؟

بين إرث القرامطة وصواريخ نتنياهو، بين مشروع الولي الفقيه وخريطة صفقة القرن، يقف السنّة أمام لحظة الحقيقة. الاختيار ليس بين عدوين، بل بين ذاكرة تنزف ومستقبل يتشكل. فمن لا يملك سرديته، لن يملك خريطته. ومن يدفن تاريخه تحت ركام التحالفات، لن ينجو من لعنة الجغرافيا.

ربما لا يكفي أن نكره طهران أو نرفض تل أبيب.

المطلوب أولًا أن نعرف من نحن، وماذا نريد، وما الذي لا يمكن التنازل عنه، ولو تغيّرت ملامح اللعبة.

المصدر: تحقيق استقصائي حصري أعدته “اليوم ميديا” – لندن