موت اتفاقات أبراهام وصعود طموحات نتنياهو

حبيبة ضياء الدين
لم تعد طموحات نتنياهو محصورة في الدبلوماسية أو في السعي وراء اتفاقات التطبيع. اتفاقات أبراهام، التي عُدّت في وقتٍ من الأوقات الهدف الأسمى لاستراتيجيته الإقليمية المعاصرة، تبدو اليوم بلا قيمة، وقد أُزيحت جانبًا لصالح رؤية أشدّ عدوانية. فما نشهده اليوم ليس سياسة سلام، بل سياسة توسّع، حيث لا يمكن لأي دولة عربية أن تفترض أنها بمنأى عن الخطر. السؤال المتعلق بأي دولة ستكون الهدف المقبل بات عصيًا على التنبؤ، لأن أفعال نتنياهو لا تحكمها حسابات عقلانية بقدر ما تستند إلى الثقة التي يمدّه بها الدعم الأميركي غير المشروط. قليلون هم من كانوا يتخيلون أن الدوحة، بما تحويه من قاعدة عسكرية أميركية وبما تمثله من حليف وثيق لواشنطن، قد تتعرض لغارة جوية، إلا أن ذلك حدث بالفعل. تكشف حالة عدم القدرة على التنبؤ واقعًا بالغ الخطورة، وهو أن نطاق الحرب مرشح للتوسع، وأن أي دولة في المنطقة قد تجد نفسها الهدف القادم لإسرائيل.
فكرة إسرائيل التوسعية
الفكرة القائلة بأن طموحات إسرائيل تتجاوز فلسطين ليست جديدة ولا سرًّا خفيًا. فمنذ تأسيسها عام 1948، حملت الصهيونية في جوهرها نزعة توسعية، تتخيّل امتداد الحدود عميقًا داخل الدول العربية المجاورة. وما يجعل هذه الأيديولوجيا لافتة هو أنها ليست حكرًا على الدوائر الدينية ولا تُتداول همسًا في الخفاء؛ بل إن الساسة الإسرائيليين عبّروا مرارًا عن هذه الأهداف على الملأ. ولم يقتصر هذا الخطاب على رجال الدين، بل تحوّل إلى مخطط سياسي صريح، أعاد التأكيد عليه قادة إسرائيليون مرارًا، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي أعلن على شاشة التلفزيون مباشرة ارتباطه الشخصي بخريطة ما يُسمى بـ«إسرائيل الكبرى»، واصفًا إياها بأنها «مهمة تاريخية وروحية».
هذه الطموحات ليست أيديولوجية فحسب، بل لها سجلّ ممتد من الأفعال الملموسة. فقد دأبت إسرائيل على توظيف الصراع ذريعةً للتوسع، كما تجلّى بوضوح عام 1967 حين استغلت أجواء الحرب لتوسيع نطاق سيطرتها نحو لبنان وسوريا ومصر والضفة الغربية المحتلة. وتبقى عملية ضمّ هضبة الجولان واحدة من أبرز الأمثلة الصارخة على أن التمدد إلى ما يتجاوز الأراضي الفلسطينية لم يكن مجرّد أطروحة نظرية، بل ممارسة فعلية متكررة. إن هذا السجل التاريخي يثبت أن رؤية «إسرائيل الكبرى» ليست أسطورة بعيدة المنال، بل مشروع يُدفع به قدمًا على مراحل كلما سنحت الظروف السياسية أو العسكرية.
كثيرًا ما يرى المحللون أنّ هذا المشروع يسير وفق مسار متدرّج من المراحل. تبدأ أولاً بعملية “نزع الفلسطينيّة” الممنهجة من الأراضي الفلسطينية، وهي عملية مستمرة حتى اليوم، يُرجَّح أن تشهد تصعيدًا في الضفة الغربية عبر المجازر الجماعية، وسياسة التجويع، وعمليات التهجير القسري. أما المرحلة الثانية، فتقوم على توسيع رقعة الاحتلال لتشمل دولًا عربية مجاورة، كما برز في لبنان وسوريا، حيث سعت إسرائيل إلى استحداث مناطق نفوذ وسيطرة. ويشكّل الاحتلال المزمن للجولان، فضلاً عن التحركات الأخيرة في السويداء، دليلاً صارخًا على هذا الاتجاه. وفي مرحلة ثالثة متوقعة، سيكون الأردن هدفًا رئيسيًا، بحكم أنّ شريحة واسعة من سكانه من أصل فلسطيني، قبل أن يتجه المخطط في مراحله الختامية نحو مصر والسعودية والعراق. إن الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية جليّ: إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بما يرسّخ الهيمنة الإسرائيلية ويجعلها أمرًا واقعًا.
الضربة الإسرائيلية إلى قطر ورسائلها
في ضوء ذلك ينبغي فهم الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قطر. فهذه الدولة، الحليف الوثيق للولايات المتحدة ومقرّ قاعدة العديد العسكرية الضخمة، لطالما اعتمدت على الحماية الأميركية لضمان أمنها. ومن ثمّ، فإنّ إقدام إسرائيل على توجيه ضربة مباشرة إلى الدوحة لا يقتصر على استهداف قادة حماس، بل يمثّل تصعيدًا بالغ الخطورة يوجّه رسالة أوسع مفادها أنّ العواصم العربية، التي كان يُظن يومًا أنّها بمنأى عن أي تهديد، باتت في مرمى اليد. الأمر يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الحماية الأميركية لا تزال كافية، وحول إمكانية أن تصبح مثل هذه الضربات أمراً اعتياديًا بمرور الوقت. وفعليًا، تؤدي هذه العملية دور “بالون اختبار”، لقياس ردود الفعل الدولية ورصد حدود ما يمكن لإسرائيل أن تبلغه في دفع أجندتها التوسّعية قدمًا.
ما يتكشّف أمامنا إذن هو صورة للاستمرارية لا للانقطاع؛ فالضربة الأخيرة ليست حادثة معزولة، بل حلقة في مسار طويل الجذور في الأيديولوجيا الصهيونية، التي لطالما عبّر عنها القادة الإسرائيليون جهارًا. وهو ما يوحي بأنّ الطريق نحو مشروع “إسرائيل الكبرى” قد دخل مرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر، تاركًا المنطقة والعالم بأسره أمام سؤال مقلق: أيّ عاصمة عربية ستكون التالية؟
تنامي طموحات نتنياهو
مع مرور الوقت، وتحت غطاء الدعم الأميركي، أخذت طموحات نتنياهو تتسع على نحو مطّرد، دافعة بأجندته من مستوى إلى آخر. فقبل أحداث السابع من أكتوبر، كان هدفه الأساسي يتمحور حول الدبلوماسية، ولا سيما ترسيخ اتفاقات أبراهام مع الدول العربية. في تلك المرحلة، كانت عملية التطبيع هي الجائزة الكبرى بالنسبة له. غير أنّ اندلاع الحرب غيّر المعادلة؛ إذ باتت تلك الاتفاقات، التي كانت يومًا في صميم استراتيجيته، تبدو ثانوية، وربما عديمة الصلة، مقارنةً بأهداف نتنياهو الأوسع. وفي اللحظة الراهنة، يبدو أنها فقدت بريقها، بعدما طغت عليها الرؤية الأكبر لمشروع “إسرائيل الكبرى”.
وقد عزّزت التطورات الميدانية هذا التحوّل؛ فالحرب على غزة لم تؤدِّ إلى تأجيل جهود السلام الإقليمي فحسب، بل أثارت أيضًا تساؤلات أعمق بشأن الاستراتيجية بعيدة المدى لإسرائيل. فإذا كان نتنياهو عازمًا بالفعل على المضي في مشروع “إسرائيل الكبرى” ـ وهو تصور عبّر عنه الساسة الإسرائيليون علنًا وربطوه حتى برؤى هرتزل الإقليمية التي تمتد إلى داخل السعودية وتشمل مواقع مقدّسة مثل مكة والمدينة ـ فإنّ فكرة الاستقرار الإقليمي برمّتها تصبح هشّة، إن لم تكن مستحيلة. منذ البداية، كان نتنياهو مصمّمًا على توسيع نطاق الصراع؛ ولم يكن القضاء على حركة حماس هدفه الأوحد، بل كانت أنظاره موجّهة إلى توسيع ساحة المعركة لتشمل أراضٍ أخرى.
المفارقة أنّه قبل شهرين فقط بدا أنّ نتنياهو يفكّر في إبرام صفقة مع حركة حماس قد تفضي إلى إنهاء القتال: إطلاق سراح عشرة أسرى إسرائيليين مقابل مئات الأسرى الفلسطينيين، ووقف إطلاق النار لمدة ستين يومًا. مثل هذا الاتفاق كان من شأنه أن يمهّد الطريق نحو خفض التصعيد. غير أنّ نتنياهو، عقب زيارته لواشنطن ولقائه مع ترامب، غيّر مساره فجأة، فتخلّى عن المفاوضات وشرع بدلاً من ذلك في التحضير لهجوم مدمّر على مدينة غزة. وكانت النتيجة ليس فقط إطالة أمد الحرب وتوسيع نطاقها، بل خروج نتنياهو مصرحًا بأن لكل دولة الحق في “الدفاع عن نفسها خارج حدودها”.
يندرج هذا المسار في إطار نمط أوسع؛ فنتنياهو لم يُخفِ يوماً طموحه في أن يصبح القوة المهيمنة في المنطقة. وخلال بضعة أشهر، ولا سيما بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، جرى تصوير ذلك في هيئة تنافس مع تركيا على زعامة الإقليم. وأثناء الصراع السوري، واجهت إسرائيل مباشرةً الوكلاء الإيرانيين، فيما عُدّ سقوط الأسد نصراً استراتيجياً لرؤية نتنياهو الأشمل. غير أنّ طموحه اليوم تجاوز حدود المنافسة، إذ ظهرت تكهّنات بأنّ تركيا نفسها قد تكون هدفًا محتملاً مستقبلاً. ورغم أنّ مثل هذا السيناريو يبدو مستبعدًا ـ فتركيا عضو في حلف الناتو وتملك ثاني أكبر جيش فيه، وتقع خارج نطاق القدرة الاستراتيجية المباشرة لإسرائيل ـ فإنّ مجرّد وجود مثل هذه الطروحات يكشف مدى اتساع آفاق الطموح الإسرائيلي.
بغضّ النظر عمّا إذا كانت تركيا ستُستهدف أم لا، فإنّ خلاصةً واحدة تظل جلية: نتنياهو يبحث عن الجبهة التالية. فهو يبني استراتيجيته على إطالة أمد الحرب، واستحداث أكبر قدر ممكن من الخصومات، وتجنّب أي تسوية مفروضة يعتبرها بمثابة كابوس سياسي. ومن خلال إبقاء الصراع متّقدًا وتوسيعه، يكسب الوقت ويضمن بقاءه في موقع القيادة. ورغم أنّ استطلاعات الرأي تشير إلى أنّ حزب الليكود ما زال يحافظ على مكانته، في وقت يتراجع فيه ائتلافه اليميني المتطرّف، فإنّ تأجيل الانتخابات إلى عام 2026 يمنحه هامشًا واسعًا للمناورة. وهو يدرك تمامًا أنّ للحرب قدرة على إعادة تشكيل الرأي العام، ويراهن بوعي على هذه التقلبات.
في هذه المرحلة، يتمثّل أعظم مكسب لنتنياهو في الدعم المطلق والمتواصل الذي يحظى به من دونالد ترامب. فقد أتاح له هذا التأييد غير المشروط شعورًا بالتحصين، وكأن واشنطن ستظل سندًا له مهما بلغت جرأته في التوسّع. ومن ثمّ اندفع نتنياهو بخطوات متسارعة، كمن يسابق الزمن المتبقي من ولاية ترامب. ففي غضون فترة قصيرة، أُنهكت غزة تحت ضرباته، وأُعيد تشكيل الضفة الغربية تمهيدًا لجولة جديدة من التصعيد، بل وصل الأمر إلى استهداف عاصمة خليجية في خطوة لم يكن من الممكن تصوّرها قبل أيام معدودة. وتكشف وتيرة التحركات هذه بجلاء أنّ نتنياهو يطمح إلى دفع مشروع “إسرائيل الكبرى” قدمًا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، مستثمرًا نافذة سياسية محدودة قد تُغلق مع انتهاء عهد ترامب.
لذا، لا يبدي نتنياهو اهتمامًا يُذكر بإنهاء الحرب؛ فالصراع الممدّد والمتسع يخدمه أيديولوجيًا وسياسيًا على حدّ سواء. وإذا كانت الضربة التي استهدفت قطر قد أثبتت شيئًا، فهو أنّ أياً من دول المنطقة لا ينبغي أن يعتبر نفسه بمنأى عن الخطر. فما كان يُعدّ مستحيلًا في السابق أصبح اليوم واقعًا، وقد لا يكون سوى مسألة وقت قبل أن تجد دولة عربية أخرى نفسها في مرمى نيران إسرائيل.
نقلا عن موقع الحبتور للدراسات