هل السعودية على أعتاب التطبيع؟ صفقة قد تغيّر خريطة الشرق الأوسط

تعيش المنطقة العربية لحظة تاريخية فارقة، إذ تقترب السعودية — بثقلها السياسي والديني والاقتصادي — من اتخاذ قرار قد يعيد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط. فالتقارب السعودي الإسرائيلي الذي كان يُتداول في الكواليس بات اليوم على الطاولة، ليصبح اختبارًا حقيقيًا للتوازن بين طموح الرياض في قيادة “الشرق الأوسط الجديد” وموقعها الرمزي كقلبٍ للعالم الإسلامي.

وبين الضمانات الأمنية الأمريكية، والفرص الاقتصادية الواعدة، والمخاطر الإقليمية المتصاعدة، تبدو المملكة أمام مفترقٍ حساس قد يعيد رسم خريطة المنطقة برمتها.

 ثلاثة مسارات في طريق واحد

تواجه السعودية اليوم ثلاثة مسارات رئيسية في معادلة التطبيع مع إسرائيل.

المسار الأول هو التطبيع المشروط، الذي يربط أي خطوة علنية بإحراز تقدم ملموس نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة. غير أن تسارع وتيرة الاستيطان الإسرائيلي يجعل هذا الخيار صعب التحقيق في المدى القريب.

المسار الثاني هو “التطبيع الناعم”، أي الانخراط التدريجي في تعاون اقتصادي وأمني غير معلن، بما يسمح ببناء جسور مصالح دون الاعتراف الرسمي الكامل.

أما المسار الثالث فهو التحوّط الاستراتيجي، حيث تسعى الرياض إلى الموازنة بين الضغوط الأمريكية ومتطلبات الأمن الإقليمي، مع الاحتفاظ بورقة التطبيع كورقة تفاوضية تستخدمها عند الضرورة.

 بين الواقعية والتمزق الإقليمي

تُظهر مسارات التطبيع المحتملة أن الأمر لا يقتصر على اختلاف في التكتيك الدبلوماسي، بل يعكس صراعًا داخليًا بين متطلبات الواقعية السياسية ومخاطر التفكك الإقليمي. ويُرجح أن انخراط السعودية في اتفاقيات أبراهام سيعيد رسم موازين الأمن في الشرق الأوسط، إلا أن هذا التحول قد يفرض على المملكة تكلفة سياسية وأيديولوجية كبيرة يصعب احتواؤها والتحكم بتداعياتها.

 ترامب يشعل السباق نحو التطبيع

في مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” بتاريخ 17 أكتوبر، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: “آمل أن تدخل السعودية… فعندما تدخل السعودية، سيدخل الجميع.”

هذا التصريح لم يكن مجرد رغبة دبلوماسية، بل إشارة واضحة إلى سعي واشنطن لإحياء مشروع “صفقة القرن” وإعادة دمج إسرائيل في الإقليم.

ويرى مراقبون أن إدارة ترامب — ومعها أطراف نافذة في المؤسسة الأمريكية — تنظر إلى التطبيع السعودي بوصفه الركيزة الكبرى لنظام إقليمي جديد يمتد من الخليج إلى البحر المتوسط.

 تكاليف باهظة في ميزان المكاسب

لكنّ كلفة هذا المسار على السعودية لا يمكن الاستهانة بها. فقد تعثرت المحادثات التي كانت جارية قبل حرب غزة مؤقتًا، قبل أن تعود واشنطن لتحريكها من جديد، وسط تسريبات عن زيارة محتملة لولي العهد السعودي إلى العاصمة الأمريكية.

وتسعى الرياض، في المقابل، للحصول على ضمانات أمنية أمريكية، وحق الوصول إلى أنظمة تسليح متقدمة، ودعم في البرنامج النووي المدني ضمن حزمة شاملة مقابل الانفتاح على إسرائيل.

إلا أن عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 وما تلاها من دمار واسع في غزة غيّرت الموازين جذريًا. فقد اضطرت السعودية إلى فرملة خطوات التطبيع في مواجهة موجة غضب شعبي عارم في الشارع العربي والإسلامي. ومع ذلك، تشير الثقة الأمريكية المتجددة إلى أن “الإطار العام للصفقة لم يُلغَ، بل وُضع في حالة انتظار سياسي.”

السعودية بين الشرعية الدينية والسياسة الإقليمية

السعودية ليست دولة عادية في معادلة المنطقة؛ فهي مركز الثقل الديني والاقتصادي للعالمين العربي والإسلامي. وإذا مضت نحو التطبيع، فإن تداعيات القرار ستتجاوز حدودها لتشمل النظام العربي بأسره، فيما تعتبره إسرائيل “الجائزة الكبرى” التي تمنحها شرعية إقليمية كاملة بعد عقود من العزلة.

بالنسبة لواشنطن، سيكون هذا التطور تتويجًا لتحالف استراتيجي ثلاثي (أمريكي–إسرائيلي–سعودي) هدفه احتواء إيران، وضمان تدفق الطاقة، والحد من التمدد الصيني في الخليج. غير أن هذا التحالف قد يُفسَّر من طهران كإعلان تطويق جديد، ما قد يدفعها إلى تسريع برامجها الصاروخية والنووية، مهددًا بسباق تسلح إقليمي جديد.

 اقتصاد التطبيع… ازدهار محفوف بالتبعية

اقتصاديًا، يَعِدُ التطبيع بفرص تعاون ضخمة في مجالات التكنولوجيا، والطاقة، والدفاع، لكنه يحمل في طياته مخاطر التبعية التقنية، إذ يمكن أن تهيمن الشركات الإسرائيلية المدعومة غربيًا على سلاسل القيمة الإقليمية، مما يُدخل السعودية في شكل جديد من الاعتماد الاقتصادي.

كما أن التقارب العلني مع إسرائيل قد يُضعف علاقات المملكة مع بكين وموسكو وطهران، ويقيد قدرتها على المناورة بين القوى الكبرى، وهو ما يتناقض مع سياسة التوازن التي تبنّتها الرياض في السنوات الأخيرة.

 التحالف السيبراني… السلام في ثوب المراقبة

يُثير التعاون السيبراني المحتمل بين الرياض وتل أبيب مخاوف من إنشاء نظام رقابة إقليمي متقدم، يمزج القدرات المالية السعودية بالتكنولوجيا الأمنية الإسرائيلية، في تحوّل قد يجعل من “السلام التقني” أداة مراقبة داخلية تتجاوز الحدود السياسية.

وقد ينتهي هذا المسار إلى حرب باردة رقمية جديدة، تمتد من الخليج إلى شرق المتوسط، تشتبك فيها المصالح بين واشنطن وبكين وطهران وموسكو.

مقامرة الجغرافيا والعقيدة

في نهاية المطاف، لا يبدو التطبيع بالنسبة إلى السعودية مجرد خيار دبلوماسي، بل مقامرة جيوسياسية كبرى. فما بين إغراء الصفقة الأمريكية، وضغط الشارع العربي، ومخاطر الاصطفاف ضد إيران، تمضي المملكة في حقل ألغامٍ سياسي شديد الحساسية.

قد تفتح الصفقة أبواب ازدهار اقتصادي وتحالفات جديدة، لكنها في الوقت نفسه قد تُشعل صراعات صامتة تحت سطح “السلام”، لتتحول إلى حرب باردة شرق أوسطية تُدار من الداخل لا من الحدود.

لندن – اليوم ميديا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى