image

أرشيفية

علي عبد الرحمن – (لندن)

منذ أن اعتلى أول ممثل خشبة المسرح العربي ليحوّل الألم الجمعي إلى مشهد، والقهر إلى كلمة، واللاجدوى إلى سؤال، لم يكن المسرح السياسي مجرد فن؛ بل مساحة للمواجهة، ومرآة للأزمنة المتصدعة. في لحظته الذهبية، لم يَكتفِ بأن يكون عرضًا، بل صار منصة للفكر ومختبرًا للوعي، حيث الجسد كلمة، والكلمة موقف.

فالمسرح الذي وصفه سعد الله ونوس بأنه “احتفال جمالي بالحقيقة”، لم ينطق يومًا إلا حين أراد أن يُفكّر، ويُقلق، ويُنذر. لكن، كيف انتقل هذا المسرح من وهجه الثوري إلى غيابه المُربك؟ ومن شرايين الشارع إلى الهامش الثقافي؟

من كشكش بك إلى الزعيم.. الكوميديا تولّد السياسة

في مصر، شكّلت السخرية مدخلًا أوليًا للمسرح السياسي. كان نجيب الريحاني في “كشكش بك” لا يُضحك بقدر ما يُسائل، إذ وظّف التهكم الاجتماعي ليؤسس لبنية مسرحية ناقدة للطبقة والسلطة والاغتراب. ثم جاء محمد نجم ليحمل شعلة التمرد الشعبي في فضاء مسرحي لاذع وعفوي، قبل أن يطوّره عادل إمام إلى مستوى جديد في “الزعيم” و”بودي جارد”، حيث مزج بين الجماهيرية والطرح السياسي غير المباشر، متقنًا لغة تجمع الشارع بالخشبة دون أن تفرّق بينهما.

حين تتحوّل النصوص إلى تفكير علني

في الجانب الأكثر فكرًا، مثّلت تجربة سعد الله ونوس مدرسة قائمة بذاتها، حيث تحوّل النص المسرحي إلى مساحة معرفية تجمع الفلسفة بالتاريخ، والسياسة بالوجود. من “الملك هو الملك” إلى “الاغتصاب”، لم يكن ونوس يكتب مشاهد، بل يزرع شكوكًا حية ويغرس أسئلة لا تهدأ.

وإلى جانبه، ظهرت تجربة محمد صبحي ولينين الرملي، في أعمال مثل “تخاريف” و”وجهة نظر”، حيث تتجلى عبقرية الطرح في الجمع بين الإمتاع البصري والتحليل الاجتماعي، مؤكدين أن المسرح السياسي لا يُفترض أن يكون خطابًا ثقيلًا، بل أداة ذكية لطرح الأسئلة العميقة في قوالب جاذبة.

نساء على خشبة الوطن

في الجزائر، كانت نورية قزدرلي أكثر من ممثلة؛ كانت صوتًا للمهمشين، جسدت أدوارها بين الوطن والمرأة، بين التحرير والهوية. لم يكن المسرح عندها ترفًا ثقافيًا، بل فعل مقاومة إنساني، يداوي جراحات جماعية عبر عين نسوية ثاقبة، تُعيد تعريف “السياسي” كقضية وجود لا سلطة فقط.

الخليج.. مسرح يكتب تحوّله

في الإمارات، تحوّلت أيام الشارقة المسرحية إلى مرآة للمسرح الفكري، فبرز منصور الرحبي في أدوار تمس أسئلة الهوية والتهميش، بينما أسهمت موزة المزروعي في إعادة تشكيل دور المرأة على المسرح، جنبًا إلى جنب مع خالد الجنيبي الذي قاد تيار المونودراما بجرأة بصرية وشخصية.

أما الكويت، فقد احتفظت بمكانتها كمهد للكوميديا السياسية مع عبد الحسين عبد الرضا، الذي جعل من السخرية سيفًا ضد النفاق السياسي، في أعمال خالدة مثل “سيف العرب” و”باي باي لندن”. وواصل جاسم النبهان هذا النهج بأسلوب أكثر تأملاً وفلسفة، مؤكدًا على أن المسرح الكويتي قادر على طرح أسئلته العميقة دون إسفاف أو استسهال.

في السعودية، التي تخطو بخطى متسارعة نحو التعبير الثقافي، برزت تجارب لافتة مثل فهد الحارثي ومحمد آل سالم وشهد السويدي، حيث يتحول المسرح إلى لغة حوار اجتماعي مع الذات، يعكس التحولات المجتمعية الكبرى ويُعيد ترتيب أسئلة الهوية والمستقبل.

من المجد إلى الخفوت.. لماذا غاب المسرح السياسي؟

إن أفول نجم المسرح السياسي لا يُعزى إلى فقر في الإبداع أو عزوف الجمهور، بل إلى تحولات بنيوية في الإعلام والثقافة. فظهور الوسائط الرقمية، وهيمنة المحتوى المرئي السريع، سرقت من الخشبة ضوءها. أما المؤسسات الثقافية، فمالت إلى دعم “الترفيهي” على حساب “النقدي”، وهو ما ساهم في تقليص مساحة التعبير الحر على المسرح.

ويُضاف إلى ذلك غياب الجيل المسرحي الكاتِب، الذي يجمع بين الرؤية الجمالية والطرح السياسي، فضلًا عن هشاشة التأريخ المسرحي، ما أدى إلى قطيعة بين الأجيال الجديدة وتجارب الرواد.

المسرح ينتظر لحظته القادمة

لكن، هل مات المسرح السياسي؟ يجيب المخرج مازن الغرباوي: “المسرح ذاكرة حيّة تنتظر لحظة استدعاء جديدة”. وهو محق؛ فمع تجدد الخطاب الثقافي في العالم العربي، تعود الفنون إلى الواجهة كأداة للتنوير والتغيير.

إن استعادة المسرح السياسي ممكنة، حين يُعاد النظر فيه كأداة تربوية وجمالية، تُنير العقول، وتُعيد للجمهور مكانته كشريك لا كمستهلك. فالمسرح لا يعيش إلا حين يلمس وجدان الناس، وحين يتحول من عرض إلى فعل.