
تعصف بلبنان اليوم صراعات نفوذ إقليمية تتجاوز حدود المواجهة العسكرية، لتدخل مرحلة إعادة رسم مستقبل البلد بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. وبينما تطرح الرياض نفسها ضامنة لاستعادة الدولة وسيادتها، تعمل تل أبيب على فرض معادلة أمنية جديدة تعيد إنتاج نموذج السيطرة الذي طُبِّق في الثمانينيات.
في هذا السياق، يكشف هذا التحليل عن تصادم رؤيتين: مشروع سعودي يقوم على دعم الدولة، ومخطط إسرائيلي يهدف إلى إعادة تشكيل لبنان كملحق أمني دائم.
عقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان في نوفمبر 2024، تحركت تل أبيب لإعادة تشكيل مرحلة ما بعد الحرب وفق مصالحها الخاصة. ومن خلال التعامل مع لبنان بوصفه دولة ضعيفة ومجزأة، تعمل إسرائيل على فرض نظام أمني–اقتصادي طويل الأمد في الجنوب بدعم أميركي، فيما تدفع السعودية نفسها إلى المشهد بوصفها الممول العربي الرئيسي لعملية إعادة الإعمار. غير أن محللين يرون أن المملكة تخاطر بأن تتحول إلى شريك ثانوي في مشروع أميركي–إسرائيلي قد يهدد السيادة اللبنانية ويقيد قدرة الدولة على اتخاذ القرار.
لا تقتصر الاستراتيجية الإسرائيلية على المطالبة بنزع سلاح حزب الله، بل تتجاوز ذلك نحو تحويل لبنان إلى دولة تابعة ومنزوعة السلاح تحت إشراف أمني أميركي–إسرائيلي. وتصر تل أبيب على البقاء داخل الأراضي اللبنانية حتى تجريد الحزب من قدراته الردعية، ليس فقط جنوب نهر الليطاني، بل في مختلف أنحاء البلاد.
وقد تحدث علنًا كل من وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت (تم تصحيح الاسم إن لزم) أو إسرائيل كاتس، وقائد الجبهة الشمالية السابق أوري جوردين، عن هذه الأهداف. واقترح جوردين إقامة منطقة عازلة دائمة داخل لبنان كورقة تفاوض مستقبلية، بينما أكد كاتس أن القوات الإسرائيلية ستبقى “إلى أجل غير مسمى”.
وفي خطاب أمام الكنيست قال كاتس: “لن نسمح بأي تهديدات ضد سكان شمال إسرائيل، وسنكثف العمل إلى أقصى حد”. وأضاف أن إسرائيل ستعود للعمل “بقوة” داخل لبنان إذا لم يتخلَّ حزب الله عن أسلحته بنهاية العام.
وبذلك، لا تتعامل تل أبيب مع لبنان كدولة ذات سيادة، بل كـ”ملحق أمني” لحدودها الشمالية، مع تحويل مؤسسات الدولة اللبنانية إلى واجهات إدارية لقيادة أمنية–سياسية أميركية–إسرائيلية.
وفق الرؤية الإسرائيلية، فإن الهدف لا يقتصر على تقويض القدرات العسكرية لحزب الله، بل يمتد إلى إعادة تشكيل الجنوب اللبناني ليصبح منطقة أمنية–اقتصادية تابعة. ويتضمن المشروع تعزيز الوجود العسكري طويل الأمد، وفرض ترتيبات حدودية جديدة، وتهيئة بيئة تسمح بإنشاء مناطق عازلة أو شبه استيطانية، وهو ما تشير إليه خرائط انتشار القوات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية.
دعت السعودية مرارًا إلى حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية، ودعمت تنفيذ اتفاق الطائف لعام 1989. وفي خطابه أمام الأمم المتحدة، أكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن المملكة “تقف إلى جانب لبنان وتدعم أمنه واستقراره”.
كما جدد المبعوث السعودي إلى لبنان، يزيد بن فرحان، الموقف ذاته، مؤكدًا أن حق امتلاك السلاح يجب أن يكون حصريًا للدولة. وخلال لقاءات خاصة، شدد على ضرورة الضغط باتجاه نزع سلاح حزب الله “حتى لو تطلب الأمر الوصول إلى حرب”.
ورغم التقاطع بين الرياض وتل أبيب في هدف نزع سلاح الحزب، فإن الأهداف مختلفة جذريًا:
إسرائيل: تسعى لفرض سيطرة كاملة على النظام الأمني اللبناني وتحويله إلى تابع دائم.
السعودية: تسعى للحفاظ على سيادة لبنان وتعزيز دور الدولة وتقليص نفوذ الحزب بما يعكس مصالحها.
وفي حين ترى الرياض نفسها طرفًا مؤثرًا في مستقبل لبنان، تنظر إليها إسرائيل بوصفها مجرد جهة تمويل لخطط وُضعت مسبقًا في تل أبيب وواشنطن.
تعيد تل أبيب اليوم إحياء نموذج اتفاق 17 مايو 1983 الذي حاولت من خلاله تحويل لبنان إلى محمية أمنية تخدم مصالحها. وبعد حرب 2024، بقيت القوات الإسرائيلية متمركزة داخل الأراضي اللبنانية رغم نصوص وقف إطلاق النار التي تلزمها بالانسحاب الكامل.
وتواصل إسرائيل تنفيذ انتهاكات جوية وهجمات يومية بحجة منع “إعادة تموضع” حزب الله، ما يعيد إنتاج نهج الاحتلال السابق بآليات جديدة.
يروج خبراء إسرائيليون وغربيون لمقاربة تقوم على نزع سلاح حزب الله على مراحل: الجنوب أولًا، ثم البقاع، ثم الحدود السورية. وتُربط المساعدات الدولية — الأميركية والفرنسية والسعودية والقطرية — بشروط صندوق النقد الدولي، ما يجعلها جزءًا من مشروع أمني–اقتصادي يهدف إلى إعادة هندسة لبنان وفق الرؤية الإسرائيلية.
وتشير دراسات إسرائيلية إلى ضرورة ربط إعادة إعمار الجنوب بإزالة قوات المقاومة، مع الحفاظ على “حرية العمل الكاملة” للجيش الإسرائيلي في الأجواء والأراضي اللبنانية.
تُظهر تحليلات غربية قريبة من دوائر القرار في واشنطن والرياض أن السعودية تنظر إلى لبنان بوصفه ساحة مركزية في صراعها مع إيران. لكن الخلاف الجوهري بين الرياض وتل أبيب يتمحور حول سؤال جوهري:
السعودية: تريد إعادة توازن النظام السياسي وتقليص النفوذ الإيراني.
إسرائيل: تريد إعادة تعريف السيادة اللبنانية ووضعها تحت وصاية أمنية دائمة.
وبذلك، تتحول السعودية — وفق النموذج الإسرائيلي — إلى مجرد ممول، من دون قدرة على صياغة رؤية عربية لمستقبل لبنان.
يرى محللون أنه إذا لم تستخدم الرياض نفوذها في واشنطن والمحافل العربية وآليات المانحين، فإنها تخاطر بتسليم لبنان لنظام أميركي–إسرائيلي يعيد إنتاج اتفاق 17 مايو بنسخة أكثر ترسخًا، بحيث يتحول لبنان إلى نموذج ارتباط أمني–اقتصادي يعيد توجيه موازين النفوذ الإقليمي نحو مشهد تهيمن عليه إسرائيل.
في المحصلة، يقف لبنان بين مشروعين متعارضين جذريًا: مشروع عربي يسعى إلى إعادة الدولة كفاعل رئيسي، ومشروع إسرائيلي يريد إعادة تعريف السيادة اللبنانية لصالحه. وبينما تمتلك السعودية أوراق قوة مالية وسياسية، تبقى قدرتها على التأثير رهينة استعداد واشنطن لوضع حدود للطموحات الإسرائيلية. ومع استمرار الغموض في مسار ما بعد الحرب، يبقى مستقبل لبنان مرهونًا بسؤال جوهري: من سيضع قواعد اللعبة الإقليمية في المرحلة المقبلة؟

تواصل شبكة اليوم ميديا سلسلة تحقيقاتها حول فساد نظام البشير وكشف خبايا السودان، وفي الحلقة الثانية نسلط الضوء على تأسيس قوات الدعم السريع عام 2013 ودورها في ارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين خلال العمليات العسكرية في دارفور وجبل مرة. يكشف هذا المقال كيف استغل النظام هذه القوة لترسيخ نفوذه، وكيف أصبح قائدها محمد حمدان دقلو [...]

يعكس وصول وفد عسكري مشترك من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى مدينة عدن حجم القلق المتزايد لدى الرياض وأبوظبي من استمرار التصعيد العسكري والسياسي في جنوب اليمن. ويأتي هذا التحرك في توقيت بالغ الحساسية، بعد إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي سيطرته على مساحات واسعة في محافظات الجنوب، وما رافق ذلك من هجمات دامية [...]

تتصاعد مؤشرات التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل على نحو غير مألوف، بعدما كشفت صحيفة وول ستريت جورنال عن خلافات حادة بين الطرفين بشأن الموقف الإسرائيلي المتشدد تجاه سوريا، في ظل رغبة الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب في تحقيق انفراجة سريعة في الملف السوري بعد التغيرات التي شهدتها البلاد أواخر 2024. واشنطن تعبّر عن استيائها [...]

بدأ محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، يشعر أنه يستحق موقعًا أفضل ضمن هياكل النفوذ والسلطة في السودان. في عام 2007، شرع في تمرد ضد الحكومة السودانية، وهو ما وثقه تحقيق ميداني مصور لشبكة سي إن إن بعنوان "في حضرة الجنجويد" أو “Meet the Janjaweed”، حيث ظهرت المذيعة نعمة الباقر لأول مرة في معسكرات الجنجويد [...]

لجأت حكومة عمر البشير إلى تسليح القبائل واستخدامها للقتال بالوكالة، لمواجهة حركات التمرد المسلحة في أطراف البلاد التي رفعت شعارات تعبر عن تظلماتها. كان ميدان المواجهة الرئيسي هو إقليم دارفور، لكن النار التي أشعلها هناك في أقصى الغرب كان لها أثر طويل المدى على النظام في الخرطوم. بداية الصراع في دارفور بدأت الأزمة عام 2003 [...]

شهدت سوريا تحولات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، أبرزها صعود أبو محمد الجولاني، المعروف سابقًا كقائد جهادي في داعش، وتحوله إلى شخصية سياسية مركزية في إدلب، وصولًا إلى لقب "أمير دمشق" بعد سقوط حكومة بشار الأسد. ويُعتقد أن تركيا لعبت دورًا حاسمًا في هذا التحول، من خلال استراتيجيات براغماتية مدروسة. البداية: إدلب والحلم الكبير في ربيع [...]