
أحمد الدريني
من ينظر إلى خريطة الإقليم سيدرك أن الوضع لم يعد مجرد أزمات عابرة، لكل واحدة منها تعاط خاص على حدة.
بل باتت الخريطة موزعة بين دول مأزومة بحروب خارجية أو اقتتالات أهلية أو مهددة بأشباح انقسام، أو في سبيلها بالفعل للاجتزاء والانتقاص من مساحتها وسيادتها وحدودها.
نحن نتحدث عن إقليم كامل، لكل دولة فيه حالة خاصة تقريبًا. بين قائمة، أو متماسكة إلى حين، أو مهددة وآيلة للسقوط أو واقعة في عمق المأساة، أو دولة تبحث عن نفسها وسط تيه، أو تلك الدول التي في غياهب الجب لا ترجى لها قيامة بقدر ما لا يتوقع لها سقوط.
أول مرة يتهلهل الإقليم إلى هذا الحد على هذا النحو.. ومصر بطبيعتها تتصل أعصابها الحساسة بكل نقطة في محيطها وتتأثر سريعًا بكل شيء، كأنها «المخ» وهو يرصد ويدرك أي خلل يطرأ على الجسم البشري، ويستشعر أي مؤثر خارجي يدهمه.
ورغم الميل إلى المعالجة «العاقلة» لما يجرى حوالينا، كخيار تاريخي للدولة المصرية، إلا أن القاهرة لم تخفِ انحيازها ولا حسمها في بعض الملفات ودون مواربة أو استشارة أو مراعاة حليف أو خضوع لاعتبار.
لكن هذه العدوى التي ضربت أنحاء الإقليم الذي رزح تحت تناقضات كثيرة لقرابة قرن من الزمان، انفجرت كلها بغتة، فتنادت القبيلة لعصبيتها ونطق المذهب لثاراته وانشقت المليشيا بسلاحها، وانحاز أهل كل جهة لجهتهم، ونطق الذين تمولهم قوى إقليمية محيطة بلسان مصالح وعقائد هذه القوى. وناءت الأجيال الجديدة بإرث العقود البالية، فورث جيل «زد» وضعًا أشد إحباطًا مما ورثه جيل الألفية الذي قاد غضبات وثورات الربيع العربي.
لنصبح لأول مرة إزاء أزمة جيلية وانشقاق ميليشي وتناحر قبلي وتداعٍ جغرافي وانهيار اقتصادي وسياسي وقيمي، وتدخل كل القوى المحيطة والدخيلة، في الوقت ذاته.
يذهب المتفائلون أن مشاهد الشتات والدمار والانقسام في الإقليم تدفع المصريين للتحزب حول وطنهم والحفاظ عليه مهما كانت أوجه التبرم ومساحات السخط وبواعث الإحباط.
ويذهب المتشائمون أن شرارة من شرارات السخط ستتسرب، ووقيعة من وقائع البلدان المجاورة قد تستنسخ نفسها وإن بصورة أقل حدة، وأن دعوى من دعاوى الغضب قد تلقى ميلاً لدى جيل محبط أو جماعة متربصة أو مكون مستعد.
ولا يجوز لعاقل أن يغفل الجهود البهلوانية التي يمارسها الإخوان منذ شهور لأجل الإيهام بأن مصر على وشك الانفجار، مع تغذية هزلية تفيد باحتمال تكرار السيناريو السوري في مصر، ليعود الإرهابي الهارب يحيى موسى ليحكم مصر!
قد لا يعرف الكثيرون يحيى موسى، خارج نطاق الأجهزة الأمنية والمهتمين بشؤون الجماعات المتطرفة وبعض المنشغلين بالشأن العام، لكن ظهوراته الأخيرة وخطابه، ضمن خطاب عام متماهٍ مع نموذج الجولاني، يمجده ويمجد خطاه ومتملظ شوقًا لتكراره في مصر، يفهمك أن جماعة الإخوان ترجو أن يكون هذا هو مصير مصر. وتضغط بكل اتجاه لتضخيم كل أزمة من أزمات الحياة اليومية وتعالجها من زاوية أنها شرر الثورة المستطير الذي سيطال برميل البارود الساكن في لحظة ما.
ورغم كل هذه العوامل مجتمعة، من وجود ظرف إقليمي شديد التعاسة ووجود طرف داخلي متآمر ووضيع لدرجة القبول بأي شيء مقابل الانتقام من مصر كلها ولو عن طريق الدفع بها للهاوية، إلا أنني أعتقد أن القراءة الأمنية لهذه التهديدات ستكون غالبًا ناجعة وذكية وقادرة على إحباط النسبة الكبرى من تحركاتها ومخططاتها، وستتمكن من ترشيد كثير من آثارها، وأن مصر لن تنزلق لهذا المنحدر أبدًا إن شاء الله.
لكن المعركة الحرجة لا تجرى على هذه الأرضية فحسب، بل تجرى على أرضية الوضع العام الذي ناء بتناقضات باتت غير قابلة للتحمل والتعايش. فلا يغيب عن صاحب القرار مدى التذمر من سوء الأداء الحكومي ومن كلفة المعيشة ومما آلت إليه انتخابات البرلمانيين، ولا من شعور التكلس العام الذي يهيمن على البلاد.
كل هذه الأوضاع المتيبسة تشي بأن ثمة إحباطًا سيشق طريقه للمستقبل، إذ لن تفلح الخلطات القديمة في إنتاج واقع جديد. بل لقد كانت الخلطات القديمة، حتى وقت قريب، أقل سوءًا مما هي الآن.
أحسب أن التحدي الحقيقي الذي يكتنف مفاصل الدولة المصرية هو قدرتها على إنتاج الأمل وصناعته، لا بمجرد شكلانيات ومظهريات إنتاج الأمل، بل بإنتاجه حقيقة. بهندسة حياة سياسية جديدة، وبنسف للآلية القديمة لاختيار الوزراء والمحافظين وكبار المسؤولين، وبرسم مسار جديد يستشعره المصريون ويؤمنون به.
وهذه المسألة ما لم تتم بصدق وبإدراك أنها ليست ترفًا ولا مغازلة ولا امتصاصًا أو تهدئة بل ضرورة حتمية، سنصبح عرضة بالفعل للشرر المتطاير حولنا.
والتحدي هنا ليس في الاستجابة لمثل هذا الواقع بما يقتضيه من إجراءات، بل يزداد عليه إيلاء هذه المهام لمن يقدرون على تنفيذها بتجرد ووطنية وإدراك. فإن في بلادنا من هم قادرون على تفريغ أي شيء من مضمونه، واستدراجنا لحوارات فارغة بلا نهاية، كتزجية للوقت ولأجل الإيهام بأن ثمة شيء ما يحدث، بينما الجاري هو الإصرار على الأمر الواقع بكل ما فيه من جمود يفضي إلى المهالك.

تابع آخر الأخبار العاجلة، التحليلات العميقة، وكل ما يحدث حول العالم لحظة بلحظة

عبد الرحمن الراشد أحدثت حربُ السَّنتين التي أدارها نتنياهو تغيراتٍ مهمةً على الصَّعيد الجيوسياسي وتوازناتِ القوى في منطقة الشرق الأوسط. تبنَّت إسرائيلُ بعد هجمات أكتوبر 2023 سياسةً مختلفة، من الاشتباكِ مع وكلاءِ إيرانَ إلى سياسة القضاء عليهم. تتوازنُ في المنطقة ثلاثُ قوى إقليميةٍ لكلٍّ منهَا نفوذُها ومجالُها الأمني. إسرائيل في طورِ التَّحول إلى لاعبٍ إقليميّ [...]

نايف الدندني – خبير إستراتيجي في شؤون الطاقة في عالم الطاقة، لطالما كان الخلاف بين وكالة الطاقة الدولية IEA ومنظمة البلدان المصدرة للنفط أوبك أحد أبرز التوترات الفكرية والسياسية. الوكالة التي تُمثل مصالح الدول المستهلكة الكبرى وخاصة الغربية، كانت منذ سنوات تُروّج لفكرة أن ذروة الطلب العالمي على النفط باتت وشيكة، بل وأصبحت في بعض [...]

غسان شربل قالَ السياسيُّ العربيُّ إنَّه يشعر بالاستفزاز كلّما قرأ عن الذكاء الاصطناعي والتغييرِ المذهل الذي سيُدخلُه في حياة الدول والأفراد. والاستفزاز ليس وليدَ شعور بالصدمةِ من تغيير هائلٍ يقترب ولن يتمكَّنَ أحدٌ من البقاء خارجه. سيتغير الاقتصادُ وستتغير العلومُ وأساليبُ العملِ والحياة. الاستفزازُ هو نتيجة الفارق المريع بين العالمِ المنخرط في صناعة هذا التَّغيير [...]

عبد الرحمن الراشد باتَ معروفاً أنَّ لِلرئيس الأميركي دونالد ترمب علاقةً متميّزةً معَ وليّ العهدِ السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهما يجدّدان اللقاءَ الآن في واشنطن. بينَ رحلتين قامَ بهما للرياض، الأولى في عام 2017 والثانية قبل 6 أشهر. خلالَ هاتين الزيارتين وفي 8 سنوات دارت أحداثٌ كبرى غيَّرت في المنطقة والعالم، وطرحت تصوراتٍ جديدةً، [...]

موسى مهدي تأتي الأحداث الأخيرة في مدينة الفاشر لتكشف الكثير عن مستقبل مليشيا الدعم السريع في إقليم دارفور. بعد هزائمها المتتالية في ولايات الوسط والشرق من السودان، وتحملها خسائر كبيرة، تركز المليشيا الآن على دارفور في محاولة للسيطرة على كامل الإقليم، مستغلة ما لديها من قوة محلية وجنود مرتزقة. الفاشر.. صمود المدينة وفضائح المليشيا ما [...]

محمد فال معاوية بين صمت الخرطوم وضجيج الأساطيل السياسية، تنسج الإمارات خيوط الحياد والدبلوماسية، محاولةً الحفاظ على السلام بينما تتقاذفها أمواج الاتهامات من كل جانب. في السودان، حيث تتشابك مصالح الداخل مع سطوة القوى الإقليمية، تبدو الحقيقة غالبًا ضائعة بين الصفحات والعناوين، فيما تبقى الإنسانية والأرض شاهدة على جهود صامتة لتخفيف وطأة الحرب. منذ اندلاع [...]