
محمد فال معاوية
بين صمت الخرطوم وضجيج الأساطيل السياسية، تنسج الإمارات خيوط الحياد والدبلوماسية، محاولةً الحفاظ على السلام بينما تتقاذفها أمواج الاتهامات من كل جانب. في السودان، حيث تتشابك مصالح الداخل مع سطوة القوى الإقليمية، تبدو الحقيقة غالبًا ضائعة بين الصفحات والعناوين، فيما تبقى الإنسانية والأرض شاهدة على جهود صامتة لتخفيف وطأة الحرب.
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تعرّضت الإمارات لسيل من الاتهامات الإعلامية والسياسية تزعم دعمها العسكري واللوجستي لأحد طرفي النزاع. هذه المزاعم تبنّاها بعض السياسيين والإعلاميين الغربيين بسرعة، دون تمحيص كافٍ أو أدلة مادية صادرة عن جهات مستقلة. جذور هذه الاتهامات تعود إلى تشابك المشهد السوداني الداخلي مع المصالح الإقليمية المعقدة، حيث أصبحت أي علاقة سابقة بين الإمارات وأطراف سودانية مادة للتأويل السياسي.
الإمارات التي ترتبط بعلاقات اقتصادية واستثمارية طويلة مع السودان، كانت على مدى سنوات داعمًا للاستقرار والتنمية، وشاركت في جهود إعادة الإعمار بعد ثورة 2019. غير أن تصاعد التوترات بين الجيش والدعم السريع جعل بعض القوى الإقليمية تسعى إلى تصويرها كطرف فاعل في تأجيج الصراع، مستندة إلى فرضيات غير مثبتة وتقارير ثانوية بلا تحقيقات ميدانية أو توثيق أممي.
في الواقع، تتبنى أبوظبي نهجًا براغماتيًا في سياساتها الخارجية، يوازن بين الأمن الإقليمي ومصالح الاستقرار الاقتصادي. هذا النهج يتجلى في تعاملها مع النزاعات في اليمن وليبيا والسودان، حيث تدعم الحلول السياسية وتبتعد عن التصعيد العسكري المباشر. ومنذ اندلاع الأزمة السودانية، دعت الإمارات إلى وقف إطلاق النار وقدّمت دعمًا إنسانيًا عاجلًا عبر منظمات أممية ووكالات إغاثة، أبرزها جسر جوي إلى بورتسودان لنقل المساعدات الطبية والغذائية للنازحين.
يطرح ذلك تساؤلًا منطقيًا: هل من المعقول أن تغامر دولة بحجم ومكانة الإمارات بعلاقاتها الدولية عبر دعم طرف مسلح في حرب داخلية؟ الوقائع المتاحة تشير إلى العكس. فالموقف الرسمي المعلن من وزارة الخارجية الإماراتية منذ اليوم الأول واضح: الدعوة إلى حل سياسي شامل واحترام سيادة السودان ووحدة أراضيه. كما شاركت الإمارات في المساعي الدبلوماسية التي رعتها السعودية والولايات المتحدة في جدة لتسهيل التفاوض بين الأطراف.
لكن الاتهامات الإعلامية لم تتوقف، بل اتسعت في سياق “حرب الروايات” التي تخوضها أطراف إقليمية ودولية متنافسة على النفوذ في المنطقة. فبينما تبقى البيانات الرسمية والوثائق الأممية خالية من أدلة ملموسة، تواصل بعض المنابر تكرار المزاعم ذاتها دون تمحيص أو استناد إلى تقارير خبراء الأمم المتحدة، الذين لم يثبتوا تورطًا مباشرًا لأي دولة في تسليح الأطراف المتحاربة حتى الآن. بل إن بعض الدبلوماسيين الغربيين أقروا بأن المعلومات التي استندت إليها هذه الاتهامات “غير مؤكدة” وأن معظمها يقوم على تقديرات استخباراتية غير قابلة للتحقق.
من ناحية أخرى، يصعب تجاهل أن تصوير الحرب في السودان كصراع بالوكالة بين قوى إقليمية يختزل أزمتها المعقدة في سردية تبسيطية. فجوهر النزاع داخلي، تغذيه تراكمات تاريخية من الانقسامات السياسية وهشاشة الاقتصاد وتنافس النخب على السلطة. وفي هذا السياق، يصبح تحميل دولة بعينها مسؤولية استمرار الحرب نوعًا من الانحراف عن جوهر المشكلة.
الحديث عن “شحنات أسلحة” أو “ذهب مهرب” نحو الإمارات يفتقر إلى أي دليل قانوني أو مادي. تصدير الذهب السوداني إلى دبي يتم ضمن قنوات رسمية وبموافقة الحكومة السودانية، ولم تُسجَّل أي قضية دولية تدين الإمارات في هذا المجال. ومن غير المنطقي أن تغامر دولة تلتزم بالاتفاقيات الدولية بسمعتها ومكانتها عبر انتهاك حظر السلاح أو تسهيل التهريب، خصوصًا أن الاقتصاد الإماراتي لا يعتمد على مثل هذه المسارات الهامشية.
على الضفة الأخرى، لا يمكن إغفال الدور الإنساني الكبير الذي قامت به الإمارات في دعم السودان خلال الحرب. فقد سيّرت عشرات الرحلات الجوية لنقل المساعدات الغذائية والطبية إلى بورتسودان وتشاد، واستقبلت مئات الجرحى للعلاج في مستشفياتها، كما تعاونت مع منظمات الأمم المتحدة لإيواء اللاجئين السودانيين في دول الجوار. هذه الجهود الميدانية الموثقة تضع الخطاب الإنساني الإماراتي في سياق عملي بعيد عن الدعاية أو التوظيف السياسي.
وفي خضم هذا المشهد المليء بالتشويش الإعلامي، تظل الحقيقة بحاجة إلى قراءة متأنية لا تسير خلف الضجيج. فالإمارات، وفق ما تظهره الوقائع لا الروايات، ليست طرفًا مسلحًا في النزاع، بل فاعل إقليمي يسعى لاستقرار المنطقة ووقف معاناة المدنيين، بما يتسق مع سياستها الخارجية القائمة على البراغماتية والوساطة.
بين الاتهام والتبرئة، تظل الحقيقة ضائعة بين العناوين، لكنها لا تغيب عن الوقائع. وفي عالم تحكمه المصالح وتقوده الروايات، يبقى صوت الدبلوماسية الهادئة هو الطريق الأصعب، لكنه أيضًا الطريق الأكثر صدقًا واستدامة نحو السلام.

تابع آخر الأخبار العاجلة، التحليلات العميقة، وكل ما يحدث حول العالم لحظة بلحظة

عبد الرحمن الراشد أحدثت حربُ السَّنتين التي أدارها نتنياهو تغيراتٍ مهمةً على الصَّعيد الجيوسياسي وتوازناتِ القوى في منطقة الشرق الأوسط. تبنَّت إسرائيلُ بعد هجمات أكتوبر 2023 سياسةً مختلفة، من الاشتباكِ مع وكلاءِ إيرانَ إلى سياسة القضاء عليهم. تتوازنُ في المنطقة ثلاثُ قوى إقليميةٍ لكلٍّ منهَا نفوذُها ومجالُها الأمني. إسرائيل في طورِ التَّحول إلى لاعبٍ إقليميّ [...]

أحمد الدريني من ينظر إلى خريطة الإقليم سيدرك أن الوضع لم يعد مجرد أزمات عابرة، لكل واحدة منها تعاط خاص على حدة. بل باتت الخريطة موزعة بين دول مأزومة بحروب خارجية أو اقتتالات أهلية أو مهددة بأشباح انقسام، أو في سبيلها بالفعل للاجتزاء والانتقاص من مساحتها وسيادتها وحدودها. نحن نتحدث عن إقليم كامل، لكل دولة [...]

نايف الدندني – خبير إستراتيجي في شؤون الطاقة في عالم الطاقة، لطالما كان الخلاف بين وكالة الطاقة الدولية IEA ومنظمة البلدان المصدرة للنفط أوبك أحد أبرز التوترات الفكرية والسياسية. الوكالة التي تُمثل مصالح الدول المستهلكة الكبرى وخاصة الغربية، كانت منذ سنوات تُروّج لفكرة أن ذروة الطلب العالمي على النفط باتت وشيكة، بل وأصبحت في بعض [...]

غسان شربل قالَ السياسيُّ العربيُّ إنَّه يشعر بالاستفزاز كلّما قرأ عن الذكاء الاصطناعي والتغييرِ المذهل الذي سيُدخلُه في حياة الدول والأفراد. والاستفزاز ليس وليدَ شعور بالصدمةِ من تغيير هائلٍ يقترب ولن يتمكَّنَ أحدٌ من البقاء خارجه. سيتغير الاقتصادُ وستتغير العلومُ وأساليبُ العملِ والحياة. الاستفزازُ هو نتيجة الفارق المريع بين العالمِ المنخرط في صناعة هذا التَّغيير [...]

عبد الرحمن الراشد باتَ معروفاً أنَّ لِلرئيس الأميركي دونالد ترمب علاقةً متميّزةً معَ وليّ العهدِ السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهما يجدّدان اللقاءَ الآن في واشنطن. بينَ رحلتين قامَ بهما للرياض، الأولى في عام 2017 والثانية قبل 6 أشهر. خلالَ هاتين الزيارتين وفي 8 سنوات دارت أحداثٌ كبرى غيَّرت في المنطقة والعالم، وطرحت تصوراتٍ جديدةً، [...]

موسى مهدي تأتي الأحداث الأخيرة في مدينة الفاشر لتكشف الكثير عن مستقبل مليشيا الدعم السريع في إقليم دارفور. بعد هزائمها المتتالية في ولايات الوسط والشرق من السودان، وتحملها خسائر كبيرة، تركز المليشيا الآن على دارفور في محاولة للسيطرة على كامل الإقليم، مستغلة ما لديها من قوة محلية وجنود مرتزقة. الفاشر.. صمود المدينة وفضائح المليشيا ما [...]