
مجدي رشيد – أكاديمي ومهني
في زاوية بعيدة من العاصمة الإيرلندية، وتحديدًا في أحد أحيائها الطرفية المعروف بـ “دبلن 15”، تنشط شلّة صغيرة لا يتناسب حجمها مع حجم الطموحات التي تؤجّجها. مجموعة محدودة الأفق، مغلقة على ذاتها، اتخذت من الغرف المظلمة مسرحًا لترتيب حساباتها وتحريك خيوطها الخفية، محاولةً التأثير على مصير البشر “الأغلبية”، وكأنها تملك تفويضًا لم تحصل عليه يومًا.
هذه الشلّة لم تنشأ عن تجربة راسخة أو عن دور طبيعي داخل مجتمع الجالية السودانية، العريقة والمعروفة بتماسكها وعطاءها حتى وقت قريب في أيرلندا، بل هي نتاج صدفة عابرة ظهرت في غفلة من مسار التاريخ السوداني الحديث، الذي نعيشه منذ سطو على ثورة الشباب في 2019. أغلب أفرادها ينتمون إلى تيار سياسي مُفتعل، وُلد من لا شيء، لا يستند إلى مشروع فكري ولا إلى قاعدة اجتماعية حقيقية. فخبراتهم السياسية والمجتمعية التي يتباهون بها لم تتجاوز ممارسات أركان النقاش في الجامعات السودانية، التي اشتهرت بضيق أفقها ونزعتها التسلطية والإقصائية تجاه كل من يختلف معها رأيًا أو تنظيمًا.
ومع مرور الوقت، عملت هذه المجموعة على صناعة هالة تقديسية حول بعض رموزها، مقدّمة إياهم باعتبارهم مرجعيات لا يأتيها الباطل، لا لعمق في الفكر أو تراكم في التجربة، بل لأنهم يُجيدون التلاعب بالخطاب الوطني وطيّ الحقائق عند ظهورهم في القنوات الفضائية. تلك القنوات، بدورها، لم تجد فيهم سوى مادة ترفيهية مسلية تُنعش بها فراغ البث وتُشبع رغبة المشاهد في الجدل العقيم المصحوب بالدراما، لا في المعرفة أو الوعي. وهكذا تحوّل الأداء الإعلامي المراوغ إلى بديل بائس عن الفكر، وإلى أداة تُستخدم لإضفاء شرعية زائفة على نفوذ لا جذور له ولا امتداد اجتماعي أو سياسي حقيقي. ومع كل ظهور تلفزيوني يزداد وهج الأسطورة المصطنعة، فيما تتزايد في الخلفية هشاشة الواقع الذي تقف عليه هذه الحشود الصغيرة المبهورة بالشاشات، والغافلة عن أن اللمعان قد يخدع لكنه لا يصنع قيمة ولا يمنح مشروعية.
إن المشكلة لا تكمن في وجود مجموعة صغيرة تختلف رؤاها أو تتباين طموحاتها مع غيرها؛ فهذا أمر طبيعي في أي مجتمع. بل تكمن الإشكالية الحقيقية في تحوّل هذا الاختلاف إلى مشروع هيمنة، تُستغل فيه ضآلة العدد لتعويضها برفع الصوت، وتُغطّى محدودية التأثير بخلق ضجيج إعلامي يضلّل كثيرين ممن ينظرون من بعيد ولا يرون ما يجري في التفاصيل.
تلك المجموعة، وقد أعجبتها صورة “الرموز الإعلامية” التي صنعتها لنفسها، بدأت بزراعة أذرع لها في أيرلندا، تتعامل مع الجالية وكأنها كيان قاصر يحتاج إلى وصاية، أو كأنها تمثّل “الطليعة” التي تفهم أكثر مما يفهم الناس. ومع الوقت، صار الخطأ يُقدَّم باعتباره اجتهادًا محمودًا، والتجاوز يُبرَّر بأنه ضرورة مرحلية، والتحالفات الغامضة تُمنح لبوس الحكمة السياسية. وحين يتجرّأ أحد على كشف التناقضات أو مساءلة السلوكيات، يُقابَل بالاتهام والإقصاء، أو بالتشويه المتقن الذي يحترفونه منذ سنوات.
هذا النمط في الممارسة ليس جديدًا؛ فهو صورة مصغّرة لأزمة أكبر عاشها السودان نفسه: أزمة التنظيمات الصغيرة التي تُضخّم ذاتها، وتعتقد أنها تملك الحقيقة وحدها، وأن مخالفيها هم المشكلة لا السياسات أو المعايير أو الانحرافات عن الطريق. ومع كل ظهور إعلامي جديد، يُعاد إنتاج أساطيرها، ويزداد وهج نفوذها المصطنع، فيما تتراجع المساحات الحقيقية للعمل المشترك داخل الجالية.
إن مواجهة هذه الظاهرة لا تتم بالمراقبة أو السكوت، بل بإعادة بناء الحياة العامة نفسها: إحياء الروابط الاجتماعية، وتفعيل الجمعيات الشرعية، وفتح النقاشات المفتوحة التي لا تحتكرها فئة، وتشييد مساحات يشارك فيها الجميع وفق قواعد واضحة واحترام متبادل. عندها فقط يفقد النفوذ المصطنع بريقه، لأن الضوء الساطع يكشف ما كان يستمد قوته من العتمة.
لقد آن الأوان لقول الأمور بلا مواربة: استمرار هذه الشلّة في العبث بالشأن العام للجالية ليس مجرد خطأ عابر، بل تشويه متعمد لمساحات العمل المشترك ومحاولة لفرض واقع مزيف يتكئ على الضوضاء لا على الشرعية. إن ترك الساحة لهم، بدافع المجاملة أو اليأس أو الخوف من الصدام، ليس خيارًا؛ فهو أشبه بتسليم المفاتيح لمن لا يعرف معنى المسؤولية.
الجالية التي قدّمت نماذج مشرّفة في الاجتهاد والجدية والنزاهة، لا يمكن أن تُختزل في حفنة أفراد يتفنّنون في صناعة الهالات الوهمية والظهور التلفزيوني، بينما يخفقون في أبسط اختبار للعمل العام: احترام الناس. المطلوب اليوم ليس مراقبتهم ولا مناقشتهم، بل تجاوزهم عبر بناء مؤسسات حقيقية، وخلق قيادة نابعة من الناس لا مفروضة عليهم، وإحياء قيم التضامن السوداني الذي لا يُدار من غرف مظلمة ولا يعيش على فتات القنوات الفضائية.
فالنفوذ المصطنع يسقط حين ينهض الوعي الحقيقي، والأقنعة اللامعة تتشقق حين تظهر الوجوه الصادقة. الجاليات لا يقودها الصخب، بل من يعملون بصمت، ويحملون همّ الجماعة لا مصالحهم الضيقة. وإذا كان هؤلاء قد وجدوا لأنفسهم مساحة في العتمة، فإن أول خطوة لإنهاء نفوذهم هي ببساطة: إضاءة المكان.

مشاري الذايدي نحن على مقربة من توديع العام الحالي 2025 واستقبال لاحقه 2026، وما زال رهان بعض الناس والجهات على اضمحلال خطر الإرهاب الأصولي، ومن – وما – يرفد هذا العقل الإرهابي، من فكرٍ ومُقدّمات سابقة… ما زال رهان البعض على اضمحلال كل ذلك من قَبيل التفكير الرغبوي، أو الكسل البحثي، أو البلادة الرقابية، أو [...]

غسان شربل لم تعدِ الحروب تدور على مسارحها المباشرة فقط. منحتها وسائل التواصل فرصة التسلل إلى أماكن بعيدة. يكفي أن يلتفت شخص إلى هاتفه في قارة بعيدة ليتابع مجريات مجزرة تدور على بعد آلاف الكيلومترات. ولم تعد الكراهيات أسيرة منابع تفجرها الأصلية. يمكنها الانتقال سريعًا إلى من هو مستعد لتلقيها في أماكن قصية. وهكذا بات [...]

سمير عطا الله يقول الكاتب الكويتي سعد بن طفلة العجمي إن الكتّاب العرب امتهنوا انتقاد الخليج والخليجيين، بمناسبة أو من دونها، وبسبب أو من دونه. واستمرت الظاهرة فترة طويلة. وانقسم المنخرطون فيها إلى فئات: الاستعلائيون الذين رأوا في الخليجيين «حديثي نعمة» وأثرياء النفط. واليسار القومي الذي رأى في البحبوحة عقبة كبرى في وجه تحرير فلسطين [...]

مارك ماكغيروفسكي تصوّر إدارة ترامب أوروبا على أنها ضعيفة ومشلولة وتواجه محواً حضارياً، ويبدو أنه يمكن الاستغناء عنها من منظور استراتيجية الأمن القومي الأمريكي؟ لا شك أن الرئيس ترامب يحب القادة الأقوياء. وكثيرًا ما يُخيّل إليه أن هذا هو المعيار الوحيد الذي يطبقه على رؤساء الدول الأجنبية عند تقييم مكانتهم السياسية وفائدتهم في تحقيق الأهداف [...]

غسان شربل ليس صحيحاً أن الغياب يعفي من العذاب. القبر لا يحصن الحاكم من أعاصير بلاده. يمكن لجثته أن تتعرض لطعنات كثيرة؛ للشماتة، والسخرية، والإذلال، وفيض الكراهيات. ويمكن أن يصاب القبر بالذعر، وبالإحراج، وبالخوف، وأن يحاول الهرب كمرتكب يبحث عن مخبأ للنجاة من غضب الناس ومحكمة التاريخ. هذا حدث قبل عام. تردد مدير مكتبه «أبو [...]

عبد الرحمن الراشد تمر سنة على نهاية نظام الأسد. التغيير هائل وتداعياته لم تنته بعد. وبمرور الذكرى الأولى، لا تزال هناك أسئلة حائرة، أبرزها: لماذا تحوّل بشار الأسد ونظامه إلى تابع لإيران منذ السنوات الأولى لحكمه؟ في تصوري، لو لم يرتكب تلك السياسة الخطرة، ربما لما آلت نهايته منفياً في موسكو. قناعتي تزداد عند مراجعة [...]