حين وُلد النور.. سجدت الظلمات

بقلم: محمد فال معاوية

ما من حدث في التاريخ أشد وقعًا ولا أعمق أثرًا من مولد النبي محمد ﷺ. فقد وُلِد في زمن كانت البشرية فيه تغط في ظلام الجاهلية، مُقيّدة بالأصنام ومكبّلة بالعادات الجائرة، فكان مولده ﷺ كفجر يشق ليل الضلال، وميثاق رحمة ينبثق في عالم تائهاً عن هدى السماء. لقد شاء الله أن يولد المصطفى ﷺ في عام الفيل، العام الذي تجلت فيه قدرة الله بحفظ بيته الحرام، وكأن السماء كانت تتهيأ والأرض ترتقب قدوم نورٍ سيبدد الظلمات ويغير مسار الكون بأسره.

يقول تعالى في كتابه العزيز:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]فجاءت ولادته ﷺ لتكون إيذانًا بطلوع شمس الرحمة وانبلاج فجر الهداية.

فجر النور في ليل الجاهلية

كانت مكة تغط في ظلام الجاهلية، تحكمها الأصنام وتقيّدها العادات الجائرة. فجاء ميلاده ﷺ كخيط ضوء يمزّق حُجب الليل. وقد أبدع أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

“وُلِدَ الهُدى فالكائناتُ ضياءُ، وفمُ الزمانِ تبسُّمٌ وثناءُ”

كأنما الكون كله تهلّل بقدومه ﷺ، فالأرض ازدانت، والسماء ابتهجت، والقلوب تهيأت لتستقبل رسالة النور.

شهادة الصحابة في مولده

لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يرون في ذكر مولد النبي ﷺ مجرد حديث عن حدث، بل مدخلاً إلى الحب الصادق والاتباع الأمين، وفاتحةً لكل خير وبركة. فقد قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
“إذا ذُكر الصالحون فحيهلاً بمحمد”
فكيف بميلاده ﷺ الذي أشرق العالم بنوره؟ وأضاف:
“بعثه الله على حين فَتْرة من الرسل، وهفوة عن العمل، وغبرة من الجهل، فاستنهض للحق وبلّغ الرسالة”
ليُظهر عظمته ﷺ وارتفاع مقامه منذ اللحظة الأولى.

وأبو بكر الصديق رضي الله عنه شهد محبته منذ الصغر، فقال:
“لولا أن أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ما رأيت أحدًا أحب إليّ منك”
فيما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن مولده ﷺ كان أعظم مولد وأشرف شأنًا في العالم:
“ما رأيت أعظم مولدًا ولا أشرف شأنًا من مولد محمد ﷺ”

أما عمّه العباس رضي الله عنه، فقد عبّر عن فرح الأرض بمقدمه ﷺ بأبيات بليغة:
“وأنت لما وُلدت أشرقت الأرضُ وضاءت بنورك الأفقُ، فنحن في ذلك الضياء وفي النور وسبل الرشاد نخترقُ”

هكذا، منذ مولده ﷺ، انبثق النور، وتبدد الظلام، وارتقت البشرية إلى سبيل الهداية والرشاد، ليكون ميلاده بداية لكل خير وبهجة لكل قلب مؤمن.

معنى المولد في وجدان الأمة

إن المولد النبوي الشريف ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو محطة روحية تتجدد كل عام. ففيه يستعيد المسلمون معاني الحب لرسول الله ﷺ، ويستحضرون شمائله الكريمة، ليجدّدوا العهد على اتباع هداه.

والاحتفال الحقّ ليس في مظاهر عابرة أو شعارات متفرقة، بل في أن ينعكس حب النبي ﷺ في سلوكنا اليومي: في صدق الكلمة، وعدل المعاملة، ورحمتنا بالضعفاء. فمحبة النبي ﷺ تُترجم إلى مدرسة حياة تضيء دروب القلوب قبل العقول، وتعلّمنا كيف يكون الإيمان عملاً نعيشه في كل لحظة.

المولد بين الأمس واليوم

اليوم، يقف المسلمون على امتداد العالم الإسلامي أمام هذه الذكرى وقوف المحب المشتاق. في المساجد تُتلى آيات الذكر الحكيم، وعلى الألسنة تتردد الصلوات على النبي ﷺ، وفي القلوب يتجدد الإيمان برسالته.

لقد لخّص الإمام البوصيري مكانته في أبيات بردته الشهيرة قائلاً:
“محمدٌ سيّدُ الكونينِ والثّقلينِ والفريقينِ من عربٍ ومن عجمٍ”

فهو ﷺ رسول الإنسانية كلها، جاء بدين يحرر الإنسان من أسر الشهوات إلى عبودية رب الأرض والسماوات.

إن ذكرى مولد النبي محمد ﷺ ليست لحظة في الزمان تُستدعى كل عام، بل هي معنى متجدد يفيض رحمةً وأملاً في كل لحظة. فمولده ﷺ كان إيذانًا بميلاد الرسالة وبدء عهدٍ جديد يعلو فيه الحق على الباطل، والنور على الظلمة.

ومن حقه علينا أن يكون احتفاؤنا بذكراه التزامًا عمليًا بسيرته، واقتداءً بأخلاقه، ووفاءً لرسالته، لا مجرد كلمات أو مظاهر. فبقدر ما نُترجم حبنا للنبي ﷺ إلى عمل وسلوك، بقدر ما نكون شركاء في حمل النور الذي أشرقت به الدنيا قبل أربعة عشر قرنًا.

زر الذهاب إلى الأعلى